خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 12 من ربيع الآخر 1445هـ الموافق 27 /10/2023م
ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ وَثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( [آل عمران:102]، )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا( [النساء:1]، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا( [الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
إِنَّ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ عَلَى وَجْهِ هَذِهِ الْأَرْضِ عُرْضَةٌ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْفَرَحِ وَالتَّرَحِ، وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَالتَّفَاؤُلِ وَالتَّشَاؤُمِ، وَبَنُو الْبَشَرِ تَمُرُّ بِهِمْ حَالَاتٌ مِنَ الْإِخْفَاقِ وَالنَّجَاحِ، وَفَتَرَاتٌ مِنَ الْفَسَادِ وَالصَّلَاحِ، فَتَارَةً يَفْعَلُ مَا تَكُونُ بِهِ نَجَاتُهُ، وَتَارَةً يَجْنِي مَا بِهِ عَطَبُهُ وَهَلَاكُهُ، وَتَارَةً يَقُومُ بِمَا يُكَفِّرُ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ، وَأُخْرَى يُقْبِلُ عَلَى مَا فِيهِ رَفْعُ دَرَجَاتِهِ؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ، وَثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ، وَثَلَاثٌ كَفَّارَاتٌ، وَثَلَاثٌ دَرَجَاتٌ. فَأَمَّا الْمُهْلِكَاتُ: فَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ. وَأَمَّا الْمُنْجِيَاتُ: فَالْعَدْلُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَى، وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. وَأَمَّا الْكَفَّارَاتُ: فَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي السَّبَرَاتِ [أَيْ:شِدَّةِ الْبَرْدِ]، وَنَقْلُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ. وَأَمَّا الدَّرَجَاتُ: فَإِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ، وَصَلَاةٌ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» [رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَغَيْرُهُ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ]. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ يُبَيِّنُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ خِلَالٍ تُهْلِكُ الْعَبْدَ وَتَأْخُذُ بِهِ إِلَى حَتْفِهِ، وَثَلَاثاً تُلْقِي إِلَيْهِ بِطَوْقِ النَّجَاةِ وَسَبِيلِ الْفَكَاكِ، فَتَعَالَوْا مَعَنَا لِنَقِفَ عَلَى حَقِيقَةِ تِلْكَ الْمُهْلِكَاتِ وَالْمُنْجِيَاتِ.
عِبَادَ اللهِ:
أَمَّا أَوَّلُ الْمُهْلِكَاتِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ فَهُوَ: الشُّحُّ الْمُطَاعُ، وَهُوَ الْبُخْلُ الَّذِي يُطِيعُهُ صَاحِبُهُ فَلَا يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ الْحَقِّ وَلَا حَقِّ الْخَلْقِ، بَلْ يُقَصِّرُ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى فَلَا يُخْرِجُ زَكَاةَ مَالِهِ، أَوْ يُخْرِجُهَا نَاقِصَةً، أَوْ وَنَفْسُهُ غَيْرُ طَيِّبَةٍ بِهَا، وَلَا يُؤَدِّي الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورَ الَّتِي أَلْزَمَ نَفْسَهُ أَوْ أُلْزِمَ بِهَا، وَيُقَصِّرُ فِي النَّفَقَاتِ الَّتِي أَلْزَمُهُ الشَّرْعُ أَدَاءَهَا. وَيُقَصِّرُ فِي حَقِّ الْخَلْقِ؛ مِنَ النَّفَقَاتِ وَالصِّلَاتِ وَمَا يَسْتَوْجِبُ الْمُرُوءَاتِ.
وَقَدْ ذَمَّ اللهُ تَعَالَى الشُّحَّ وَأَهْلَهُ، وَأَثْنَى عَلَى مَنِ اتَّصَفَ بِخِلَافِهِ؛ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: ) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ( [آل عمران:180]. وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ) وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( [الحشر:9].
وَلَا يُسْتَهَانُ بِالشُّحِّ فَقَدْ أَهْلَكَ أُمَمًا، وَتَسَبَّبَ فِي انْتِهَاكِ مَحَارِمَ، وَاسْتِحْلَالِ دِمَاءٍ، فَأَعْظِمْ بِهَا مِنْ مَصَائِبَ!!، وَعَاقِبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَنْكَى؛ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]. وَبِئْسَ خَلَّةُ الرَّجُلِ الشُّحُّ وَالْبُخْلُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ: شُحٌّ هَالِعٌ، وَجُبْنٌ خَالِعٌ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ] وَالشُّحُّ الْهَالِعُ هُوَ الَّذِي يَدْفَعُ صَاحِبَهُ إِلَى الْحِرْصِ عَلَى الْمَالِ وَالْجَزَعِ عَلَى ذَهَابِهِ، وَالْجُبْنُ الْخَالِعُ هُوَ الشَّدِيدُ الَّذِي يَكَادُ يَخْلَعُ فُؤَادَ صَاحِبِهِ مِنْ شِدَّةِ خَوْفِهِ. فَلْيَحْذَرِ الْمُسْلِمُ الشُّحَّ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ فِي قَلْبِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ].
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:
وَحَذَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُهْلِكَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَهُوَ مَيْلُ الطَّبْعِ إِلَى مَا يُلَائِمُهُ؛ وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَوًى لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ فِي الْعَوَاقِبِ الْمَذْمُومَةِ، فَكَمْ حَرَمَ الْهَوَى مِنْ فَضِيلَةٍ، وَأَوْقَعَ فِي رَذِيلَةٍ!! وَكَمْ مِنْ لَذَّةٍ فَوَّتَتْ -بِسَبَبِهِ- لَذَّاتٍ!!، وَأَكْلَةٍ مَنَعَتْ أَكَلَاتٍ!!، وَشَهْوَةٍ كَسَرَتْ جَاهًا وَنَكَّسَتْ رَأْسًا، وَقَبَّحَتْ ذِكْرًا وَأَوْرَثَتْ ذَمًّا، وَأَعْقَبَتْ ذُلًّا، وَأَلْزَمَتْ عَارًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ وَلَا يُطَهِّرُهُ التُّرَابُ!!، وَالنَّاسُ إِمَّا أَتْبَاعُ هُدًى، أَوْ أَتْبَاعُ هَوًى؛ قَالَ تَعَالَى: ) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( [القصص:50]. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ) وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا( [الكهف:28]. وَمِنْ قُبْحِ الْهَوَى: أَنَّ اللهَ تَعَالَى شَبَّهَ أَتْبَاعَهُ بِأَخَسِّ الْحَيَوَانَاتِ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: ) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ( [الأعراف:175-176].
إِنَّ الْهَوَى - يَا عِبَادَ اللهِ - مَا خَالَطَ شَيْئًا إِلَّا أَفْسَدَهُ؛ فَإِنْ كَانَ فِي الْعِلْمِ أَخْرَجَ صَاحِبَهُ إِلَى الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الْعِبَادَةِ أَخْرَجَهَا عَنْ كَوْنِهَا عِبَادَةً إِلَى بِدْعَةٍ أَوْ عَادَةٍ، وَلَا كَانَ فِي الزُّهْدِ إِلَّا لَبَّسَ عَلَى صَاحِبِهِ وَصَدَّهُ عَنِ الْحَقِّ وَالِاعْتِدَالِ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الْقَضَاءِ قَادَ صَاحِبَهُ إِلَى الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ، أَوْ كَانَ فِي الْوِلَايَةِ وَالْعَزْلِ أَخْرَجَ صَاحِبَهُ إِلَى خِيَانَةِ اللهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَيُصْبِحُ يُوَلِّي بِهَوَاهُ وَيَعْزِلُ بِهَوَاهُ، وَهَكَذَا مَا قَارَنَ الْهَوَى شَيْئًا إِلَّا أَفْسَدَهُ؛ )أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( [الجاثية:23].
وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ مِنْ مُهْلِكَاتِ الْمَرْءِ -يَا عِبَادَ اللهِ-، وَسَبَبُهُ جَهْلُ الْإِنْسَانِ بِحَقِيقَةِ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ عَبْدٌ فَقِيرٌ ضَعِيفٌ، وَاسْتِعْظَامُ النَّفْسِ وَصِفَاتِهَا مَعَ الرُّكُونِ إِلَى النِّعَمِ وَنِسْيَانِ إِضَافَتِهَا إِلَى الْمُنْعِمِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَالْأَمْنُ مِنْ زَوَالِهَا. وَقَدْ يُعْجَبُ الْإِنْسَانُ بِعِلْمِهِ أَوْ رَأْيِهِ أَوْ عَمَلِهِ، أَوْ مَالِهِ أَوْ جَمَالِهِ، أَوْ عَقْلِهِ وَكِيَاسَتِهِ، أَوْ جَاهِهِ وَرِيَاسَتِهِ، أَوْ بِنَسَبِهِ وَحَسَبِهِ وَعَشِيرَتِهِ، أَوْ بِوَلَدِهِ وَخَدَمِهِ وَزَوْجَتِهِ، فَيَسْتَعْظِمُ نَفْسَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا يَرَى لِغَيْرِهِ وُجُودًا، وَهُوَ بِهَذَا يَحْتَقِرُ غَيْرَهُ، وَقَدْ يَصِلُ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ يَرَى أَنَّ لَهُ عِنْدَ اللهِ حَقًّا وَيُدِلُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ؛ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ».
وَعَاقِبُةُ الْإِعْجَابِ بِالنَّفْسِ وَمَا أُوتِيَتْ مِنْ حُظُوظٍ: الْهَلَاكُ وَالْبَوَارُ؛ قَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ قَارُونَ: ) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي( [القصص:78] فَكَانَتْ عَاقِبَتُهُ بَعْدَ إِعْجَابِهِ هَذَا مَا ذَكَرَهَا اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: )فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ( [القصص:81].
كَفَانِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ شَرَّ الْأَهْوَاءِ وَالْأَدْوَاءِ، وَبَلَّغَنَا مَنَازِلَ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ الْأَتْقِيَاءِ، أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسَتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْأَمِينُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَتِهِ بِمَا رَزَقَكُمْ.
عِبَادَ اللهِ:
وَأَمَّا الثَّلَاثُ الْمُنْجِيَاتُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: فَأَوَّلُهَا الْعَدْلُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْغَضَبُ وَاسْتَجْمَعَ فِي قَلْبِهِ الْغَيْظُ: قَلَّ أَنْ يُنْصِفَ، وَإِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ الرِّضَى رُبَّمَا حَمَلَهُ عَلَى الْمُحَابَاةِ وَالْمُدَاهَنَةِ، وَالْمُسْلِمُ الْحَقُّ هُوَ الَّذِي يَعْدِلُ فِي حُكْمِهِ دُونَ أَنْ تُؤَثِّرَ فِيهِ دَوَافِعُ النَّفْسِ وَحُظُوظُهَا، أَوْ سَيْطَرَةُ الْغَضَبِ وَجُمُوحُ الْأَعْصَابِ، فَإِذَا عَدَلَ الْمَرْءُ فِي حَالَتَيِ الْغَضَبِ وَالرِّضَى صَارَ قَلْبُهُ مَعَ الْحَقِّ لَا يَسْتَفِزُّهُ الْغَضَبُ وَلَا يَمِيلُ بِهِ الرِّضَى، وَقَالَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ، لَا تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ فَقَالَ: ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا( [النساء:58]، وَأَلْزَمَ بِهِ وَلَوْ كَانَ عَلَى النَّفْسِ أَوْ أَقْرَبِ الْمُقَرَّبِينَ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا( [النساء:135].
وَالْخَلَّةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْمُنْجِيَاتِ: الْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، بِمَعْنَى أَنْ يَعْتَدِلَ فِي الْإِنْفَاقِ فِي حَالَتَيِ الْفَقْرِ وَالْغِنَى، فَلَا يَكُونُ مُسْرِفًا وَمُبَذِّرًا، وَلَا بَخِيلًا مُقَتِّرًا؛ لِأَنَّ بَطَرَ الْغِنَى رُبَّمَا جَرَّ إِلَى الْإِفْرَاطِ، وَأَنَّ عَدَمَ الصَّبْرِ عَلَى الْفَقْرِ رُبَّمَا أَوْقَعَ فِي التَّفْرِيطِ؛ فَالْقَصْدُ وَالِاعْتِدَالُ فِيهِمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ؛ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا( [الفرقان:67] وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «كُلُوا، وَاشْرَبُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا؛ مَا لَمْ يُخَالِطْهُ إِسْرَافٌ، أَوْ مَخِيلَةٌ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ].
وَثَالِثُ تِلْكَ الْمُنْجِيَاتِ- يَا عِبَادَ اللهِ-: خَشْيَةُ اللهِ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَمُرَادُهُ أَنْ يَخْشَى اللهَ فِي سِرِّ أَمْرِهِ وَعَلَانِيَتِهِ، فِي خَلْوَتِهِ وَجَلْوَتِهِ، حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ وَحَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ، وَقَدَّمَ خَشْيَةَ الْغَيْبِ عَلَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْخَشْيَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي تَبْلُغُ بِصَاحِبِهَا مَرْتَبَةَ الْمُرَاقَبَةِ «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَقَدْ كَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى» [رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا].
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ].
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَنَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَنَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَنَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَنَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَنَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَنَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِالْيَهُودِ الْغَاصِبِينَ، وَانْتَقِمْ مِنَ الصَّهَايِنَةِ الْمُجْرِمِينَ، وَرُدَّ الْأَقْصَى الْجَرِيحَ إِلَى حَوْزَةِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ كُنْ لِأَهْلِنَا فِي فِلَسْطِينَ نَاصِرًا وَمُعِينًا، احْقِنْ دِمَاءَهُمْ وَاحْفَظْ أَعْرَاضَهُمْ، وَأَيِّدْهُمْ بِتَأْيِيدٍ مِنْ عِنْدِكَ، وَرُدَّ كَيْدَ أَعْدَائِهِمْ فِي نُحُورِهِمْ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وَوُلَاةَ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَاجْمَعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحقِّ وَالتَّقْوَى، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاهْدِهِمْ سُبُلَ السَّلَامِ، وَانْفَعْ بِهِمُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، اللَّهُمَّ وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنًّا، سَخَاءً رَخَاءً، دَارَ عَدْلٍ وَإِيمَانٍ، وَأَمْنٍ وَأَمَانٍ، وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة